من نوادر العرب .. تنمَّر عليه فأنقذته اللغة العربية | منوعات “صدى الخبر”

admin6 مارس 20250 مشاهدةآخر تحديث :
من نوادر العرب .. تنمَّر عليه فأنقذته اللغة العربية | منوعات “صدى الخبر”

عمون – هي واحدة من القصص التي كان بطلها أحد أهم لغويي العربية، الأصمعيّ، أظهرت كيف للغة العربية التي برع فيها، أن تنصره وترفع من شأنه، في الوقت الذي تعرض فيه لتنمّر من أحد جيرانه، إلى الدرجة التي بدأ يعود فيها، إلى داره في وقت متأخر من الليل، كي لا يراه جاره فيكرر التقليل من شأنه والحط من قدره، لأن اللغوي كان يعيش أسوأ أوضاعه المادية ويعاني من شظف شديد في عيشه.

من أهم اللغويين ورواة الشعر العربي

بطلُ القصةِ الأصمعيُّ، عبد الملك بن قُريب، (123-216هـ) المولود في البصرة العراقية، أحد أشهر لغويي الرواية والحفظ، وأكثرهم أيضا اقتناء للكتب، ومن أشهر لغويي العربية بالذكاء والفطنة والآراء الأدبية والنقدية التي سبقت كل أجيال اللغويين، وهو أحد أهم رواة الشعر العربي وأكثرهم ثقة عند أهل التدوين، وذلك حسب مختلف المدارس الأدبية التي توالت وتعتمد على مروياته، فقيل فيه: “الأصمعي أحفظ الناس” واشتهر بالثقة والصدق في اللسان واليد، كشهرته في الرواية والرأي والحفظ، وهو من المعدودين بعلم النحو.

وترك الأصمعي في العربية عشرات الكتب، وهو أحد أهم مصادر رواية الشعر العربي عبر التاريخ. وبحسب “المنتقى في أخبار الأصمعي” الصادر عن مجمع اللغة العربية في دمشق في ثلاثينيات القرن الماضي، فإن أهل الشام لا يزالون يتحدثون، حتى في المقاهي الشعبية، عن الأصمعي، كمصدر لرواية قصصهم عن العرب.

تنمّر عليه وعلى كتبه
ويذكر القاضي التنوخي (تـ 384هـ) في كتابه “الفرج بعد الشدة” تفاصيل القصة التي قال إنه عثر عليها في بعض الكتب، أن الأصمعي كلما خرج من بيته، سأله جاره: إلى أين؟ فيجيب الأصمعي: إلى فلان المحدِّث. وأنه عندما يعود إلى بيته، ينتصب جاره في الزقاق يسأله: من أين؟ فيجيبه الأصمعي: من عند فلان اللغوي.

وتشير التفاصيل التي نقلها القاضي التنوخي، أن جار الأصمعي بدأ يتنمر عليه، ويهزأ من كتبه، حتى وصل به التنمر أن قال لأهم لغويي العربية: “يا هذا! إقْبَلْ وصيّتي، لا تضيّع وقتك، واطلب معاشاً يعود عليك نفعُه” ليبلغ التنمر أقصاه في قول الجار للأصمعي: “أعطني جميع ما عندك من الكتب، حتى أطرحها في الدّن –وعاء- وأصب عليها الماء وأنبذه –أعصره- وانظر ما يكون منه! واللهِ لو طلبت منّي بجميع كتبك، جرزة بقل، ما أعطيتك!”

ظلام الليل يحميه من الأذى
إهانة حادة تلقاها الأصمعي ببلوغ تنمر جاره البقّال، إلى هذا الحد من الحط من القدر والتقليل من الشأن، وكان الأصمعي المشهور بالتهكم اللاذع، قادرا على رد ذلك التنمر إلى صاحبه المتعالي، إلا أنه وبسبب فقره الشديد حتى “أخلقَ” ثوبه ولم يعد يجد “نفقة” يومه، بعدما “ضاق صدره” من تكرار جاره لهذا التنمّر، فآثر الخروج من بيته ليلاً، والعودة إليه، ليلا، كيلا يلتقي بجاره المذكور.

عِلمه بالعربية أنقذه من الفقر والتنمّر
وبحسب التفاصيل الدقيقة التي سردها القاضي التنوخي، فوجئ الأصمعيُّ، بعد فترة وجيزة، بوفد من قصر الخليفة هارون الرشيد، يستدعيه، إنما قبل مثوله لدى الخليفة، أدخلوه للاستحمام، وقدموا له ثيابا فاخرة وأطعموه من طعام جيء به إليه خاصة، حتى إنهم “بخّروه” تجميلا وتلطيفا من حاله البائسة التي كان فيها لشدة فقره. ثم سافر إلى بغداد والغموض يزيد في همّه، ما الذي يريده الرشيد، يا ترى؟

وبرواية القاضي التنوخي، دخل الأصمعي على الرشيد، فسأله الخليفة: “أنتَ عبد الملك بن قريب الأصمعي؟” فردّ بالإيجاب. بعدها على الفور، والأصمعي تأخذه الإثارة والقلق مما في بال الرشيد ولماذا استدعاه، أمره الرشيد بأن يكون معلّماً لابنه محمّد. فتم تخصيص دار له لهذا الغرض، يعلّم فيها ابن الرشيد، وعشرة آلاف درهم، كمرتب.

جمع مالاً عظيماً من تعليم اللغة
وعلى ما قاله التنوخي، أكد الأصمعي أنه نجح نجاحا باهرا بتعليم ابن الخليفة، فروى الشعر واللغة، وتعلم أيام الناس وأخبارها، وصار الولد جاهزا لامتحان أبيه الرشيد الذي تيقن من عبور ابنه تلك المرحلة الهامة. ويقول التنوخي: “فأعجب الرشيد” بما فعله ابنه في الاختبار، فقام الخليفة بتوزيع المكافآت على الناس، بل إن الأصمعي ذاته نال المكافآت الكبرى: “وأتتني الجوائز والصلات من كل ناحية فجمعتُ مالاً عظيماً”.

وفيما لم تنته القصة عند هذا الحد، إذ أمر الخليفة بمال كثير للأصمعي، استأذن الرشيدَ كي يعود إلى خزانة كتبه التي جمعها في داره في البصرة، ومنِح الإذن، وعاد، وهناك رأى جاره المتنمّر الذي سبق ووجه له إهانات عميقة خاصة عندما قال له: لا أعطيك بكل كتبك جرزة بقل!

عودة المنتقم!
وتشير التفاصيل، إلى عودة الظُّرف إلى روح الأصمعي، بعدما حرم منه، بسبب الفقر الشديد الذي كان يعيش تحت وطأته. فخاطبه جاره المتنمر باسمه بدون أي لقب: “كيف أنت يا عبد الملك!” فيقول: “فاستضحكت من حماقته، وخطابه لي بما كان يخاطبني به، الرشيد”

وكان الرشيد، بحكم طبقته الأعلى، كخليفة، يخاطب الأصمعي باسمه مجرداً من أي كنية أو لقب، فكيف بجاره المتنمر أن يخاطبه بذات الطريقة، وقد بدت عليه، أيضا، وقتذاك، علائم العوز، هو، هذه المرة، فيما الأصمعي ينتصب أمامه، ثرياً متأنقاً، بعدما مكّنه علم العربية من بلوغ مجلس الملوك، فأكرِم على علمه، وأعانته العربية على رد الاعتبار لكبريائه الجريحة.

فأحبّ الأصمعي أن يردّ لجاره، التنمّر، ويقدح ذاكرته فتهكّم به، فقال: “وقد قبلتُ وصيتك، وجمعت ما عندي من الكتب، وطرحتها في الدّن، كما أمرتَ، وصببت عليها الماء، فخرج ما ترى!” أي انظرْ أيها المتنمر، إلى الحال التي أنا فيها الآن!

من نوادر العرب
يذكر أن المؤرخ والأديب لويس شيخو (1859-1927م) قام بإعادة نشر قصة الأصمعي في مجلة “المشرق” في مطلع القرن العشرين، وذكر في توطئته للقصة وسواها، أن عددا من هذه القصص طبعت في “البلاد الأوروبية” وغيرها، وأنها باتت نادرة الوجود، ولهذا آثر إعادة نشرها في المجلة المذكورة، تحت عنوان: “أسباب الطرب في نوادر العرب”.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

عاجل

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...سياسة الخصوصية

موافق